فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أخرج سعيد بن منصور. وهناد. وابن جرير. وابن المنذر وابن أبي حاتم. والحاكم. والبيهقي في (سننه) عن ابن عباس قال: «إن الله تعالى ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقرّ بِهِم عينه ثم قرأ الآية» وأخرجه البزار، وابن مردويه عنه مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية ابن مردويه والطبراني عنه أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال له: إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به» وقرأ ابن عباس الآية، وظاهر الأخبار أن المراد بإلحاقهم بهم إسكانهم معهم لا مجرد رفعهم إليهم واتصالهم بهم أحيانًا ولو للزيارة.
وثبوت ذلك على العموم لا يبعد من فضل الله عز وجل، وما قيل: لعله مخصوص ببعض دون بعض تحجير لإحسانه الواسع جل شأنه، وقد يستأنس للتخصيص بما روى عن ابن عباس إن الذين آمنوا المهاجرون والأنصار، والذرية التابعون لكن لا أظن صحته {وَمَا ألتناهم} أي وما نقنصا الآباء بهذا الإلحاق {مّنْ عَمَلِهِم} أي من ثواب عملهم {مِن شَىْء} أي شيئًا بأن أعطينا بعض مثوباتهم أبناءهم فتنقص مثوباتهم وتنحط درجتهم وإنما رفعناهم إلى منزلتهم بمحض التفضل والإحسان، وقال ابن زيد الضمير عائد على الأبناء أي وما نقصنا الأبناء الملحقين من جزاء عملهم الحسن والقبيح شيئًا بل فعلنا ذلك بهم بعد مجازاتهم بأعمالهم كملًا وليس بشيء وإن قال أبو حيان يحسن هذا الاحتمال قوله تعالى: {كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} وإلى الأول ذهب ابن عباس وابن جبير والجمهور.
والآية على ما ذهب إليه المعظم في الكبار من الذرية، وقال منذر بن سعيد: هي في الصغار.
وروى عن الحبر والضحاك أنهما قالا: إن الله تعالى يلحق الأبناء الصغار وإن لم يبلغوا زمن الايمان بآبائهم المؤمنين، وجعل بإيمان عليه متعلقًا بألحقنا أي ألحقنا بسبب إيمان الآباء بهم ذريتهم الصغار الذين ماتوا ولم يبلغوا التكليف فهم في الجنة مع آبائهم قيل: وكأن من يقول بذلك يفسر {واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم} بماتوا ودرجوا على أثرهم قبل أن يبلغوا الحلم، وجوز أن يتعلق بإيمان بابتعتم على معنى اتبعوهم بهذا الوصف بأن حكم لهم به تبعًا لآبائهم فكانوا مؤمنين حكمًا لصغرهم وإيمان آبائهم، والصغير يحكم بإيمانه تبعًا لأحد أبويه المؤمن والكل كما ترى، وقيل: الموصول معطوف على {حور} [الطور: 20]، والمعنى قرناهم بالحور وبالذين آمنوا أي بالرفقاء والجلساء منهم فيتمتعون تارة بملاعبة الحور؛ وأخرى بمؤانسة الإخوان المؤمنين، وقوله تعالى: {واتبعتهم} عطف على {زوجناهم} [الطور: 20]، وقوله سبحانه: بإيمان متعلق بما بعده أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل، وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم وإن كانوا لا يستأهلونها تفضلًا عليهم وعلى آبائهم ليتم سرورهم ويكمل نعيمهم، أو بسبب إيمان داني المنزلة وهو إيمان الذرية كأنه قيل: بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم، وصنيع الزمخشري ظاهر في اختيار العطف على حور فقد ذكره وجهًا أول، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يتخيل ذلك أحد غير هذا الرجل، وهو تخيل أعجمي مخالف لفهم العربي القح كابن عباس وغيره، وقيل عليه: إنه تعصب منه، والإنصاف أن المتبادر الاستئناف، وإن أحسن الأوجه في الآية وأوفقه للمقام ما تقدم.
وقرأ أبو عمرو {وأتبعناهم} بقطع الهمزة وفتحها، وإسكان التاء، ونون بعد العين وألف بعدها أي جعلناهم تابعين لهم في الإيمان، وقرأ أيضًا {ذرياتهم} جمعًا نصبًا، وابن عامر كذلك رفعًا، وقرأ {ذرياتهم} بكسر الذال {واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم} بتاء الفاعل، ونصب {ذريتهم} على المفعولية.
وقرأ الحسن وابن كثير {ألتناهم} بكسر اللام من ألت يألت كعلم يعلم، وعلى قراءة الجمهور من باب ضرب يضرب، وابن هرمز {آلتناهم} بالمد من آلت يؤلت، وابن مسعود وأبيّ {لتناهم} من لات يليت وهي قراءة طلحة والأعمش، ورويت عن شبل وابن كثير، وعن طلحة والأعمش، ورويت عن شبل وابن كثير، وعن طلحة والأعمش أيضًا {لتناهم} بفتح اللام، قال سهل: لا يجوز فتح اللام من غير ألف بحال وأنكر أيضًا آلتناهم بالمد، وقال: لا يروى عن أحد ولا يدل عليه تفسير ولا عربية وليس كما قال بل نقل أهل اللغة آلت بالمد كما قرأ هرمز، وقرئ {وما ولتناهم} من ولت يلت، ومعنى الكل واحد، وجاء ألت بمعنى غلظ يروى أن رجلًا قام إلى عمر رضي الله تعالى عنه فوعظه فقال: لا تألت على أمير المؤمنين أي لا تغلظ عليه {كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ} أي بكسبه وعمله {رَهَينٌ} أي مرهون عند الله كأن الكسب بمنزلة الدين ونفس العبد بمنزلة الرهن ولا ينفك الرهن ما لم يؤدّ الدين فإن كان العمل صالحًا فقد أدى لأن العمل الصالح يقبله ربه سبحانه ويصعد إليه عز وجل وإن كان غير ذلك فلا أداء فلا خلاص إذ لا يصعد إليه سبحانه غير الطيب، ولذا قال جل وعلا:
{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أصحاب اليمين} [المدثر: 38، 39] فإن المراد كل نفس رهن بكسبها عند الله تعالى غير مفكوك إلا أصحاب اليمين فإنهم فكوا عنه رقابهم بما أطابوه من كسبهم.
ووجه الاتصال على هذا أنه سبحانه لما ذكر حال المتقين وأنه عز وجل وفر عليهم ما أعده لهم من الثواب والتفضل عقب بذلك الكلام ليدل على أنهم فكوا رقابهم وخلصوها وغيرهم بقي معذبًا لأنه لم يفك رقبته، وكان موضعه من حيث الظاهر أن يكون عقيب قوله تعالى: {هُوَ البر الرحيم} [الطور: 28] ليكون كلامًا راجعًا إلى حال الفريقين المدعوين.
والمتقين وإنما جعل متخللًا بين أجزية المتقين عقيب ذكر توفير ما أعدّ لهم، قال في (الكشف): ليدل على أن الخلاص من بعض أجزيتهم أيضًا ويلزم أن عدم الخلاص جزاء المقابلين من طريق الإيماء وموقعه موقع الاعتراض تحقيقًا لتوفير ما عدد لأنه إنما يكون بعد الخلاص، وفيه إيماء إلى أن إلحاق الأبناء إنما كان تفضلًا على الآباء لا على الأبناء ابتداءًا لأن التفضل فرع الفك وهؤلاء هم الذين فكوا فاستحقوا التفضل، وجعله استئنافًا بيانيًا لهذا المعنى كما فعل الطيبي بعيد، وقيل: {رَهَينٌ} فعيل بمعنى الفاعل والمعنى كل امرىء بما كسب راهن أي دائم ثابت، وفي (الإرشاد) أنه أنسب بالمقام فإن الدوام يقتضي عدم المفارقة بين المرء وعمله، ومن ضرورته أن لا ينقص من ثواب الآباء شيء، فالجملة تعليل لما قبلها، وأنت تعلم أن فعيلًا بمعنى المفعول أسرع تبادرًا إلى الذهن فاعتباره أولى ووجه الاتصال عليه أوفق وألطف كما لا يخفى.
{وأمددناهم بفاكهة وَلَحْمٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ} أي وزدناهم على ما كان لهم من مبادىء التنعم وقتًا فوقتًا مما يشتهون من فنون النعماء وألوان الآلاء، وأصل المدّ الجر، ومنه المدّة للوقت الممتد ثم شاع في الزيادة، وغلب الإمداد في المحبوب، والمدّ في المكروه وكونه وقتًا بعد وقت مفهوم المدّ نفسه.
{يتنازعون فِيهَا كَأْسًا} أي يتجاذبونها في الجنة هم وجلساؤهم تجاذب ملاعبة كما يفعل ذلك الندامى بينهم في الدنيا لشدة سرورهم قال الأخطل:
نازعته طيب الراح الشمول وقد ** صاح الدجاج وحانت وقعة الساري

وقيل: التنازع مجاز عن التعاطي، والكأس مؤنث سماعي كالخمر، ولا تسمى كأسًا على المشهور إلا إذا امتلأت خمرًا أو كانت قريبة من الامتلاء، وقد تطلق على الخمر نفسها مجازًا لعلاقة المجاورة، وقال الراغب: الكأس الإناء بما فيه من الشراب ويسمى كل واحد منهما بانفراده كأسًا، وفسرها بعضهم هنا بالإناء بما فيه من الخمر، وبعضهم بالخمر، والأول: أوفق بالتجاذب، والثاني: بقوله سبحانه: {لاَّ لَغْوٌ فِيهَا} أي في شربها حيث لا يتكلمون في أثناء الشرب بلغو الحديث وسقط الكلام {وَلاَ تَأْثِيمٌ} ولا يفعلون ما يؤثم به فاعله أي ينسب إلى الإثم لو فعله في دار التكليف كما هو ديدن الندامى في الدنيا وإنما يتكلمون بالحكم وأحاسن الكلام ويفعلون ما يفعله الكرام، وقرأ ابن كثير. وأبو عمرو {لاَّ لَغْوٌ} {وَلاَ تَأْثِيمٌ} بفتحهما.
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ} أي بالكأس {غِلْمَانٌ لَّهُمْ} أي مماليك مختصون بهم كما يؤذن به اللام ولم يقل غلمانهم بالإضافة لئلا يتوهم أنهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا فيشفق كل من خدم أحدًا في الدنيا أن يكون خادمًا له في الجنة فيحزن بكونه لا يزال تابعًا، وقيل: أولادهم الذين سبقوهم فالاختصاص بالولادة لا بالملك، وفيه أن التعبير عنهم بالغلمان غير مناسب وكذا نسبة الخدمة إلى الأولاد لا تناسب مقام الامتنان {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} مصون في الصدف لم تنله الأيدي كما قال ابن جبير ووجه الشبه البياض والصفاء، وجوز أن يراد بمكنون مخزون لأنه لا يخزن إلا الحسن الغالي الثمن، أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: بلغني أنه قيل: يا رسول الله هذا الخادم مثل اللؤلؤ فكيف بالمخدوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده إن فضل ما بينهم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» وروي «أن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامه فيجىء ألف ببابه لبيك لبيك». اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ}.
هو عرض لصورة من صور النعيم، الذي حرمه أهل الضلال، الذين تلفح وجوههم النار، وهم فيها كالحون..
فهذا النعيم الذي يراه أهل النار بأعينهم، ويرون فيه أقواما كانوا من قبل موضع استهزاء بهم وسخرية منهم- هذا النعيم، كان يمكن أن يكون لهم نصيب منه، ولكنهم صرفوا وجوههم عنه في الدنيا، وسفّهوا الذين كانوا يدعونهم إليه، فأبقى لهم ذلك حسرة دائمة، وبلاء طويلا ممتدا..
لا ينتهى أبدا..
وفى هذا ما يضاعف من عقابهم، ويزيد في شقائهم، على حين أنّه يقدّم بين أيدى المؤمنين المتقين، ويرفع لأبصارهم في تلك الجنّة التي وعدوا بها، فيرونها دانية منهم، يشوقهم لقاؤها، والسعى الحثيث إليها..
وقوله تعالى: {فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ} هو حال من المتقين.. أي أنهم وهم في جنتهم تلك، يتفكهون بما فيها من طيبات تملأ نفوسهم رضا وحبورا..
وأصل التفكّه: من الفكاهة، وهو حديث فكه، يوننس به..
وسميت الفاكهة فاكهة للذة طعمها في الأفواه، كلذّة الحديث الفكه على الآذان.
وفى إظهار الاسم الكريم (ربهم) في قوله تعالى: {وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ} بدلا من إضماره- في هذا مزيد اعتناء بهم، وتذكير لهم بربّهم الذي منّ عليهم بالجنة ونعيمها، وجنّبهم جهنم وسعيرها..
قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
هو التفاتة كريمة ودعوة مسعدة للمتقين، إلى أن يأخذوا بحظهم من رضوان اللّه، الذي قدّمه لهم ربهم.. وعلى حين تصكّ آذان المكذبين الضالين الذين أخذوا أما كنهم في نار جهنم، بهذه الدعوة المزلزلة المهلكة:
{اصلوها}، فإذا أخذهم لهيبها، واشتمل عليهم سعيرها، وصرخوا صرخة الويل والثبور، قيل لهم: {فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم}- على حين يفعل هذا بالمكذبين الضالين، يقال للمؤمنين المتقين، وقد أكلوا وشربوا من نعيم الجنة: (هنيئا) أي هنأكم الطعام والشراب.. فكلّ يأخذ من ثمر ما عمل، وبطعم من جنى ما غرس! {إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
(71: التحريم) قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ}.
أي أن المتقين يلقّون هذا التكريم، وتلك التحية، في حال قد أخذوا فيها أما كنهم على أرائك وسرر مصفوفة، يقابل فيها بعضهم بعضا، ويأنس فيها بعضهم ببعض، وقد زوّجوا بحور عين..
والحور: جمع حوراء، وهى التي في سواد عينيها قليل من البياض، وهو من أمارات الحسن والجمال، وقيل هو شدة بياض العين مع شدة سوادها.. وهو من ملاحة الملاح، وحسن الحسان..
والعين: جمع عيناء، ويطلق على بقر الوحش لجمال عيونه..
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ}..
ومما يساق إلى أهل الجنة في الجنة، أن يكرم من أجلهم أبناؤهم وذرياتهم من المؤمنين، وذلك إذا كانوا أنزل درجة منهم في الجنة- وفى الجنة درجات، كما في النار دركات- وبذلك يجتمع شملهم في الجنة، كما اجتمع شملهم في الدنيا، وبهذا تقرّ أعينهم، ويكمل سرورهم..
وقوله تعالى: {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ}- إشارة إلى أن هذه الذرية التي لحقت بآبائها في الجنة، قد كانت على إيمان باللّه، كإيمان آبائهم، وبهذا كانوا جميعا من أهل الجنة، وإن اختلفت فيها منازلهم، فكان جمعهم، وإلحاق الأدنى منهم بالأعلى- إحسانا من اللّه سبحانه وتعالى إليهم جميعا.. الآباء، والأبناء..
وهنا سؤال:
لما ذا تلحق الأبناء بالآباء، ولا يلحق الآباء بالأبناء، إذا كانوا أنزل درجة من أبنائهم؟..
والجواب على هذا، أن هؤلاء الآباء، هم أبناء لآباء، وهؤلاء الآباء أبناء لآباء، وهكذا.. يتبع الأبناء آباءهم في سلسلة تمتد من بدء الخليقة إلى نهايتها.. وهكذا يبدو أهل الجنة، وكأنهم جميعا أسرة واحدة.
وقد يعترض على هذا، بأنه مخالف لما هو معروف بأن الجنة- ليست جنّة واحدة، وإنما هي جنات، وهى منازل، ولكل جنة أصحابها، ولكل منزلة أهلها..
ويدفع هذا الاعتراض:
أولا: أن أهل الجنة، أو الجنات، ليس بينهم هذه العزلة الجامدة الباردة، التي تقيم كل طائفة في معزل عن الآخرين، بل إن أهل الجنة وإن اختلفت منازلهم، وتباينت درجاتهم، هم في عالم واحد، مطلق، لا حدود فيه ولا قيود.. وهل تكون جنة ويكون نعيم، ثم يقام على هذه الجنة وذلك النعيم حارس؟.
وثانيا: هذا الاختلاف الذي بين درجات أهل الجنة ومنازلهم عند اللّه، هو اختلاف في درجة التقبّل للنعيم، وفى مدى القدرة على التناول من هذا النعيم الذي لا ينفد أبدا.. فهناك نفوس كبيرة تستوعب نعيم الجنة كله، وتلذّ به، على حين أن هناك نفوسا صغيرة تأخذ من هذا النعيم حسوا كحسو الطير، ثم تجد في ذلك شبعها وربّها.. إنها موائد ممدودة، عليها ما لا يبلغه الوصف من طيبات النعيم.. وإنه لا يردّ أحد عن أي لون من ألوان هذا النعيم، بل إن كل ما يطلبه المرء منه يجده حاضرا بين يديه.. ولكن هنا يختلف أهل الجنة في قدرتهم على الأخذ من هذا النعيم، الذي بين أيديهم، فبعضهم يأخذ القليل لأنه لا شهوة له إلى أكثر من هذا القليل، على حين يكون هناك من يجدون القدرة والاشتهاء لكل ما في الجنة من ألوان النعيم فيذوقون من كل لون، ويطعمون من كل صنف.. تماما كما نرى ذلك في الحياة الدنيا، حيث يجلس المدعوّون إلى مائدة حافلة بألوان الطعام.. ثم تختلف حظوظهم فيما ينالون منها..
دون أن يكون هناك حائل يحول بين أي منهم وبين ما يشتهى..
قوله تعالى: {وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} أي وما أنقصنا شيئا من عمل هؤلاء الآباء الذي ألحقنا بهم ذريتهم، بل وفاهم اللّه تعالى أجرهم غير منقوص..